المركز العربي للتحليل السياسي - رئيس المركز المحامي ادوار حشوة

The Arabic Center for Political Analysis - President Adwar Hachwa Attorney in Law

 Home   The Author   Books      Articles       Forum     News  Literary Articles   Syrian Pictures     Content     Contact us

     الاتصال       دليل الموقع          صورسورية         مقالات ادبية            اخبار      اعلن رأيك      مقالات            كتب        الكاتب   الصفحة الأولى

 

 

 

 

 

 

من النفاق الديني إلى النفاق السياسي

 

لاحظت في قراءتي للقرآن الكريم وفي كل الدراسات التاريخية أن قضية النفاق والمنافقين أخذت حيزاًُ كبيراً في الآيات والأحاديث والروايات التراثية .

وحيث يخصص القرآن الكريم أكثر من 300 آية في هذا الموضوع فإن معنى ذلك أن الله سبحانه وتعالى يوجه عباده إلى خطر هذه الظاهرة في حياة الناس .

وحين تتفاقم هذه الظاهرة في الحياة العربية اليوم يسندها حكام وملوك إلى درجة أصبح فيها المنافقون طبقة متميزة توالي المستبدين وتنعم بالخيرات وتعمل بصورة مستمرة على طرد الشرفاء والعاقلين وعلى تصفية الفكر ومقاومة حركة العقل فإن الأمر يصبح مهماً ويجب التصدي لهؤلاء الذين يشكلون خطراً داهماً .

والمنافقون على العموم يتواجدون على هامش أي سلطة قوية أو مستبدة تبحث عن الشرعية السياسية أو الدينية لوجودها ، في حين يخف تأثيرهم ووجودهم في الأنظمة التي تقوم على الشورى أو الديمقراطية لأن حرية الفكر تحاصرهم وتطردهم من الساحة ...

وحين يكون موضوع هذه المحاضرة عن النفاق والمنافقين وموقف الإسلام منهم فإن الغاية ليست السرد التاريخي بل تعبئة الشعب سياسياً ودينياً ضد هذه الظاهرة التي شوهت حياتنا الوطنية والسياسية وخربت الوحدة الوطنية وساندت الاتجاهات اليهودية التي في استراتيجيتها أن يبقى العرب والمسلمون متخلفين في مجتمعات تفتقد الرأي الآخر ويحكمها الاستبداد السياسي .

وإذا كانت هذه المحاضرة قادرة على المساهمة في هذه التعبئة الشعبية ولو بإسناد ديني فإنها تكون قد حققت أهدافها في تحرير الساحة من شرور المنافقين وفي تعطيل كل القوى المساندة لهم داخلياً أو خارجياً .

في الاقتصاد العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة وما يصح في الاقتصاد يصح في السياسة .

والمنافقون هم العملة الرديئة التي طردت المفكرين والنقاد وأصحاب الرأي والمشورة وألغت دور العقل في الحياة العربية .

ومع أن حركة العقل في التاريخ العربي اصطدمت بهؤلاء وبالسلطات التي تحميهم أو تستسغهم إلا أن قدرتها على تصفيتهم ووقف شرورهم كانت على امتداد التاريخ العربي محدودة .

لذلك فإن الاستعانة بالمقدس الديني عليهم ، محاولة جادة ما دامت في النتيجة ستؤدي إلى انتصار حركة العقل والفكر الحر في المجتمع العربي .

ومساهمتي في هذا المجال تعتمد على القرآن الكريم وأسباب النزول والأحاديث النبوية وعلى الدراسات الفقهية وأهمها كتاب الدكتور عبد الفتاح لاشين الصادر عن دار الرائد العربي في بيروت ( لغة المنافقين ) وعلى الظواهر والنتائج الملموسة في الحياة السياسية العربية .

وقد تشجع هذه المحاضرة السادة علماء الفقه ليساهموا في معركة العرب والمسلمين ضد النفاق والمنافقين وبذلك تكون قد أدت مهمتها كعمل وطني توفرت له المستندات الدينية ويستحق الدعم والاحترام .

 

 

وهذه المحاضرة تحتوي على قسمين النفاق الديني والموقف منه والنفاق السياسي وأخطاره والوسائل التي يحتاجها المجتمع للقضاء عليه .

من تسلسل الأحداث والأفكار نكتشف أن النفاق في شكله الديني أو السياسي هو رذيلة واحدة ومرض خطير يستمد أساسه من الكذب والتلون والخداع ومهمته إحداث الانقسام وتشجيع الاستبداد ومقاومة الإيمان وكل حركات العقل في التاريخ العربي .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

النفاق الديني

ـ أول المنافقين في الإسلام :

هو عبد الله بن أبي بن سلول الذي توج ملكاً بعد الصراعات بين الأوس والخزرج والتي كان يغذيها اليهود فمع الأوس كان يهود بني قريظة ويهود بني النضير ومع الخزرج كان يهود قينقاع..

واتفقت هذه القبائل على وقف الحرب وعلى تتويج عبد الله بن أبي بن سلول ملكاً على الجميع ..

في ذلك الوقت هاجر الرسول ( r ) إلى المدينة مستنداً إلى أنصار أقوياء في الأوس والخزرج معاً الأمر الذي أدى إلى وقف تتويجه ملكاً فأوغر ذلك الموقف الشعبي صدره حقداً وعداوة للإسلام.

وقد رغب الرسول في استرضائه وتأليفه ولكنه كان دائماً ينفر من ذلك ويأباه.

واعتقد عبد الله أبي بن سلول أن نهاية المسلمين قد حلت بعد غزوة بدر وإلى ذلك أشار القرآن الكريم في [ الأنفال 49 ] } إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرضٌُ غرَّ هؤلاء دينهم { .

ولما عاد الرسول منتصراً أظهر عبد الله بن أبي الاسلام على دخنٍ هو ومن كان على شاكلته(1 ) .

وفي حديث عن سعد بن عبادة أنه قال للرسول عندما غضب من أفعال عبد الله بن أبي أرفق به يا رسول الله فوالله لقد جاءنا الله بك وإنا لننظم له الخرز لنتوجه ملكاً فوالله إنه ليرى أن قد سلبته ملكاً(2) ...

ـ حركة النفاق حركة مدنية لم يكن لها وجود في مكة :

لان المسلمين كانوا في مكة أقلية ضعيفة بمواجهة المشركين الذين توزعوا على زعامات قريش التي هي في الأصل تجمع قبائل لا قبيلة واحدة ، فإن المنافقين لم يكن لهم وجود فاعل ولا ورد ذكرهم في الآيات المكية .

ولكن حين هاجر الرسول إلى المدينة وأقام دولة الإسلام فيها وتقوى بالأنصار بدأت ظاهرة النفاق .. وظهر المنافقون يكيدون للإسلام ويتملقون الرسول وفي قلوبهم خبث .

في المدينة كان المسلمون ضعفاء ولا حاجة لأحد أن ينافق لهم لأن ظاهرة النفاق توجد دائماً على هامش سلطة قوية ...

وهذا هو السبب في أن حركة النفاق في التاريخ الإسلامي بدأت في المدينة ولم يكن لها وجود في مجتمع مكة .

في المدينة بعد أن أعز الله الإسلام بالأنصار من الأوس والخزرج لم يستطع المنافقون الذين ظلت نزعة الشرك في قلوبهم أن يظهروا علناً أفكارهم فتظاهروا بالإسلام واتبعوا أسلوب المراوغة والخداع والتمويه ...

وقد ساعد اليهود هؤلاء كثيراً لأنهم كانوا موجودين في المدينة وأكثر تنظيماً ومالاً فعقد اليهود والمنافقون حلفاً مليئاً بالحقد والبغضاء للتآمر على الإسلام ، واستمر هذا التحالف قائماً إلى أن تم الصدام الأول مع اليهود ..

والظاهرة البارزة أن ذكر المنافقين قد تردد كثيراً في السور التي نزلت في المدينة لتعكس هذا الواقع وتندد به ... وهي البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال والتوبة والنور والأحزاب والقتال والحديد والمجادلة والحشر والمنافقون .

ـ النفاق في اللغة وفي المجتمع في عصر النزول :

في اللغة : نافق الرجل فهو منافق إذا أظهر كلمة الإيمان وأضمر خلافها ...

وقد اعتبر الكثيرون أن النفاق كلمة أدخلها الإسلام على اللغة كما أدخل كلمات كالكفر والصلاة.

قال أبو عبيدة : المنافق وضع لنفسه طريقين إظهار الإسلام وأظهار الكفر فمن أيهما طلبته خرج من الآخر .

وقال الأنباري : المنافق من النفق وهو السرب أي أنه يتستر بالإسلام كما يتستر الرجل في السرب.

وقال أبو عبيدة أيضاً : أن النافقاء حجر يحفره اليربوع داخل الأرض ثم أنه يرقق فوق الحُجر حتى إذا رابه ريب دفع التراب برأسه وخرج فقيل للمنافق منافق لأنه يضمر الكفر في باطنه فإذا فتشته رمى عنه ذلك الكفر وتمسك بالإسلام ..

المعنى الأساسي هو أن المنافق يؤمن ظاهرياً بالإسلام ويضمر في باطنه الكفر..

ولكن هذا المعنى تطور مع الزمن ليشكل أو ليقترب من التزلف والكذب والمخادعة والمدح فوق طاقة الحقيقة .. ثم أصبح النفاق أكثر من حال كفر مخبأة .. وصار وسيلة وصولية للسلطة وللثراء وصار المنافقون طبقة انتهازية على هامش أي نظام في الحياة العربية .

ـ الظواهر التي تدل على وجود المنافقين :

1 ـ عن حذيفة ابن اليمان أن الرسول سمى 14 منافقاً في غزوة تبوك حين حاول هؤلاء أن يفتكوا به وحين نفروا به الناقة ليسقط عنها وأوحى الله إليه أمرهم وقد استودع أسماءهم حذيفة.

وحين طلب عمر بن الخطاب أسماءهم بعد وفاة الرسول امتنع حذيفة عن إعطائه هذه الأسماء لأن والرسول استودعه إياها أمانة .

ولذكاء عمر فقد كان كلما كانت هناك جنازة يدعو حذيفة إليها فإذا امتنع يعرف عمر أن الميت كان واحداً من الـ 14 المذكورين لأن الآية تقول ) ولا تصل على أحدٍ منهم مات أبداً ولا تُقمْ على قبره ( [ التوية 84 ] .

فلا سبيل إذن لمعرفة منافقي غزوة تبوك إلا الموت وعدم المشاركة في الجنازة من قبل الأمين على السر حذيفة بن اليمان .

2 ـ من علائم النفاق " لحن القول " ففي سورة محمد 30 ) ولو نشاء لأريناكم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنّهم في لحن القول ( .

3 ـ من علائم النفاق الكذب ...

ففي سورة التوبة 95 ) سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم  (

فالكذب والنفاق ترافقا معاً ويدوران معاً وجوداً وعدماً ومن غير الممكن أن يفترقا لأنهما استمدا وجودهما من الخروج على الحقيقة .

4 ـ إضمار الكفر :

المنافق كما ذكرنا يعلن الإسلام ويضمر الكفر وفي سورة النساء [ 81 ]        ) والله يكتب ما يبيتون فأعرِض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا ( .

5 ـ كثرة القسم :

ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها الحرث والنسل والله لا يحب الفساد وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد ـ البقرة [ 203 –206]

المنافق إذا تولى السلطة يفسد الزرع والبشر فكله شر ومصيره إلى النار وإيمانه كاذبة وهو ألد خصام المؤمنين .

وعن ابن سعود من أكبر الذنوب عند الله أن يقال للعبد اتق الله فيقول : عليك نفسك أي اصلح نفسك ولا تصلح غيرك ..

إن المنافق لا يقبل النصيحة ويرى نفسه فوق العقاب واللوم وهذا طبيعي لأن نفسيته تستند إلى الفساد والانتهاز ويرفض الرأي الآخر ولا يؤمن بقضية ولا دين ولا أخلاق ..

 

 

 

6 ـ الحسد :

الجسد ظاهرة راسخة في الفكر النفاقي وكذلك حب الضرر .

)  إن تمسسكم حسنة تسوؤهم وإن تصبكم سيئةٌ يفرحوا بها وأن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط ( . [ آل عمران 120 ] .

لذلك فالمنافق ما أن يذكر أمامه اسم شخص على أنه جيد أو مفكر أو سياسي ناجح أو اقتصادي مهم حتى يتخذ الموقف المضاد ويجرح به ابتغاء إبعاده أو منع تقدمه في مجالات السياسة والعمل .

7 ـ كلام اللسان ليس كلام القلب :

يضمر المنافقون غير ما يعلنون لذلك يصعب التعامل معهم لأنك لا تستطيع عملياً الثقة بكلامهم إذ أنهم يقولون ويعملون غير ما يضمرون .

التضاد بين كلام اللسان ونوايا القلب أمر عام لدى المنافقين الأمر الذي يوجب الحذر وعدم الصقة في التعامل معهم .

وفي القرآن الكريم :

)  يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون ( .              [ آل عمران 167 ] .

وفي التراث أن المشركين بعد أن رجعوا منهزمين في غزوة بدر نذر أبو سفيان أن لا يمس رأسه ماء حتى يغزو محمداً وقد رصد المشركون لحرب محمد مال العير التي جاءوا بها من الشام وكانت خمسين ألف دينار ربحت مثلها ...

ولما علم الرسول بخروج أبي سفيان للحرب .. خرج للقتال بألف رجل بينهم عبد الله بن أبي بن سلول والذي انعزل بثلث المقاتلين وقال عن الرسول أطاعهم وعصاني .. وكان هذا من المنافقين.

وقد انهزم المشركون أولاً ثم ارتد المشركون على المسلمين الذين تركوا مراكزهم طلباً للغنيمة وأتوهم من الخلف وكان ذلك بسبب المنافقين وتعدادهم ثلاثمائة انحازوا إلى عبد الله بن أبي في غزوة أحد وفيهم جاءت الآية المذكورة .

8 ـ الاحتكام إلى الطاغوت :

لا يريدون الاحتكام إلى كتاب الله ولا إلى رسوله ويريدون الاحتكام إلى الطاغوت .

يقال أن رجلاً من المنافقين خاصم يهودياً فدعاه اليهودي إلى رسول الله ليحكم بينهم ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف وقد احتكما إلى الرسول فقضى لليهودي فلم يرض المنافق وطلب الاحتكام إلى عمر الذي خرج إليه وضرب رأسه ثم قال هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله .

وفي ذلك نزلت الآية )  ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به . ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً ( . [ النساء 60 - 61 ] .

الفطرة البشرية تقود الإنسان إلى الاحتكام إلى من آمن به وحيث يصد عن ذلك فهو يخالف هذه الفطرة النقية ويدل تصرفه على الخداع والكذب وهو حال المنافقين .

 

9 ـ مذبذبون :

ورد في سورة النساء )  إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى السلام قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً مذبذبين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد إليه سبيلاً ( . [ النساء 142- 143 ]

من صفات المنافقين عدم ذكر الله والتذبذب في الرأي وعدم اتخاذ الموقف الواضح لانتهاز الفرصة للانحياز إلى الأقوى والأكثر فائدة لهم ...

10 ـ محرفون :

المنافقون يحرفون الكلام من بعض مواضعه وذلك عن طريق الزيادة أو النقصان بشكل يحمل اللفظ على غير موضعه وجاءت الآية )  فبما نقضهم ميثاقهم لعنّاهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلام عن مواضعه ( .

[ المائدة 13 ] .

11 ـ يكتمون إيمانهم :

)  وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا الكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما يكتمون ( . [ المائدة 61] .

نزلت هذه الآية في أناس من اليهود كانوا يدخلون على الرسول فيظهرون إيمانهم بما جاء به نفاقاً ويخرجون من عنده كما دخلوا ..

إن هذه صورة متحركة ومشاهد حية لهؤلاء القوم الذين هم من أهل الكتاب الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم وهذا النموذج لا يطلب منه الدخول في الإسلام بل مجرد الاعتراف به .

 

12 ـ لا يجوز الصلاة عليهم :

الناس لا تحب المنافقين وهذه قاعدة عامة فالتملق وعدم الصدق في الرواية والتضاد بين كلام اللسان وما في الضمير كلها تجعل المنافق شخصاً لا يستحق الثقة ولا يحبه الناس بل يكرهون حتى الجلوس معه .

في القرآن الكريم .. ) ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره أنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون ( . [ التوبة 84 ] . وفي القرآن الكريم )  يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير ( . [ التوبة 73 ] .

هذا هو النفاق الديني بكل تفاصيله وهذا هو الموقف الديني منه وهو بهذا الوصف مرفوض ومندد به وعقابه عظيم وأليم وعلى كل المؤمنين أن يتجنبوه وأن يحاربوا دعاته .

ـ المنافقون ونظرية الإيمان الظاهري :

لأن الإسلام اعتبر مسلماً من آمن بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر ونطق الشهادتين دون أي تمحيص في العمق فإن المنافقين استفادوا كثيراً من هذا التوجه الذي ساعدهم على إضمار الكفر .

كان الإسلام يعامل الناس بالظاهر والله يتولى سرائرهم وفي حادثة عمر بن الخطاب مع أحد المشركين الذي قتل العديد من المسلمين ثم أسلم تظهر هذه الصورة.

أراد عمر بن الخطاب أن يقتل هذا المسلم لأنه أسلم كذباً وله تاريخ حافل بمقاتله المسلمين فنهاه الرسول عن ذلك وقال له ( أشققت قلبه ) ؟

إن هذا يعني أن الإسلام يكتفي بظواهر الإعلان عن الإسلام أما السرائر فهي ملك لله ولحسابه .

وهذا سمح للمنافقين أن يستمروا في الوجود وسمح للعديد من اليهود الذين أسلموا أن يمارسوا الخداع والتضليل وأن يمارسوا سياسة الوجهين حسب الحال والمصلحة وانتظاراً للفرص لقسمة الجماعة أو القضاء عليها .

ـ حرص القرآن على هداية المنافقين :

بالرغم من معرفة الرسول أسماء المنافقين وأفعالهم في غزوة تبوك وبالرغم من التنديد الإلهي بهم في سورة التوبة إلا أنه اجتهد في أن يبقى الأمر سراً .

وكان بإمكان الرسول أن يقتص منهم وأن يقضي عليهم ولكن لحكمة إلهية ترك باب     المغفرة مفتوحاً .

إذن التنديد بالمنافقين لم يستهدف التشهير الشخصي إنما كشف أعمالهم لعلهم يهتدون .

وفيما عدا ( أبو لهب وامرأته حمالة الحطب ) وآزر والد ابراهيم عليه السلام لم يذكر القرآن أية أسماء أخرى في معرض التنديد لانه وجه إلى ضرورة مناقشة الأعمال الصالحة وليس الأنساب والأسماء .

وقد استفاد المنافقون من هذه القاعدة فأوغلوا في نفاقهم ، فالإسلام يريد هدايتهم لا القضاء عليهم وهذا حررهم من الخوف من العقاب فاستمروا في المجتمع العربي والإسلامي ينخرون فيه كما السوس ...

إن الأمل بالهداية ظل شيئاً أساسياً في نظرة الإسلام للمنافقين لعلهم يهتدون كما اهتدى المشركون تماماً ولكن هذه الشريحة الكافرة المتحالفة مع اليهود منذ غزوة تبوك ما تزال مستمرة في رفض الهداية ..

ذكر القرآن الكريم في سورة البقرة ثلاث طوائف :

المتقون والكافرون والمنافقون ذكر المتقين بآية واحدة )  الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ( . [ البقرة 31 ] .

وذكر الكافرين بآية واحدة )  إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أن لن تنذرهم لا يؤمنون ( . [ البقرة 6 ] .

أما المنافقون فقد أنزل فيهم 13 آية !

في هذه الآيات دعا القرآن إلى تنفير الناس منهم ومن أعمالهم في أبلغ صدور التنديد .

فهم كذابون ) يخدعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم ( [البقرة9] .

وفي قلوبهم مرض )  في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون(. [ البقرة 10 ] .

وهم مفسدون )  وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون  ( . [ البقرة 11 و 12 ] .

وهم السفهاء )  وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا أنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون ( . [ البقرة 13 ] .

 

وهم الطغاة )  الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون (

[ البقرة 15].

وهم الضالون ) أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين( . [ التوبة 16] .

)  وهم صم بكم فهو لا يرجعون ( . [ البقرة 18 ] .

هذا التركيز على المنافقين إنما جاء لحكمة الهية لتوجيه الناس إلى مخاطرهم .

والخداع الذي هو ظاهرة النفاق إذا ترافق بالمدح صار تخادعاً ...

والمؤمن كما يقول الرسول ( r ) المؤمن غرٌّ كريم وعائشة قالت عن عمر بن الخطاب ( كان أعقل من أن يخدع وأفضل من أن يُخدع ) .

لذلك فإن توجه المنافقين للمؤمنين لخداعهم والاستفادة من طيب قلوبهم كان ظاهرة معروفة لأنهم يختارون لتجارتهم الأبرياء والطيبين وأبناء الشعب البسطاء لأنهم بمواجهة المثقفين ينكشفون تماماً لذلك يحاربون ويبتعدون عن مجالسهم .

أما الصم والبكم والعمي فهم الذين لا يقبلون الحق ...

أو كما يقول الشاعر :

أعمى إذا ما جارتي برزت

 

 

حتى يواري جارتي الخدر

 

وأصم عما كان بينهما

 

 

أذني وما في سمعها وقر

 

لكل ذلك فإن الله تعالى في كتابه المبين خصهم بعقابين ( عظيم وأليم ) .

)  وقال أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ( . [ النساء 145 ] .

النفاق السياسي

 

النفاق السياسي ظاهرة تبرز في الساحة السياسية التي يحكمها الملوك والحكام مطلقو الصلاحية والعسكريون الذين يبحثون عن غطاء شرعي لانقلاباتهم .

النفاق الديني بدأ في المدينة المنورة بعد قيام الدولة الإسلامية الأولى بقيادة الرسول في حين لم تتوفر له فرص العمل في مكة لانه لم يكن للدولة وجود وكان المسلمون ضعفاء وأقلية .

لكي تبرز ظاهرة النفاق إذن ، يجب أن يكون هناك دولة يحكمها ملوك ورؤساء يحتاجون لمن يؤيدهم ويصفق لهم لا إلى من يشاركهم أو ينصحهم أو يدلهم على الطريق ...

لذلك ترافق النفاق والاستبداد على امتداد التاريخ العربي ولم ينفصلا ، يدوران معاً   وجوداً وعدماً .

في كل مجتمع في العالم ينشأ يجانب السلطة والقوة والنفوذ فئة من الناس ترهب وتتزلف إليهم وتتملقهم في الظاهر طمعاً في المنافع .

وعلى امتداد التاريخ العربي كان ( المداحون ) جزءاً من المؤسسة الحاكمة عشيرة أو قبيلة أو ملكاً ...

ولذلك فإن الشعر العربي الذي توارثناه كان شعر مديح بالدرجة الأولى لأنه كان مطلوباً من الحكام والعشائر وكانت تقابله منافع يستفيد منها الشعراء .

كان المدح موجهاً لقيم تنسب للممدوح وكانت هذه القيم محل اعتزاز عام ، كالشجاعة وعلو النسب والكرم والنجدة ..

كان الشعراء يبالغون في تعظيم الممدوح اكتساباً للمنافع وكان الحكام يقيمون مباريات يتسابق فيها الشعراء في هذا المدح ومن هذه المسيرة بدأ النفاق السياسي .

هذا الوضع المستمر على امتداد التاريخ دون استثناءات كبيرة أدى إلى إسباغ نوع من المشروعية الأخلاقية على هذا الجانب من النفاق والذي غالباً لا يكون صحيحاً أو يتجاوز كثيراً حدود الواقع في الممدوح كأن يحل محل الله ! .

كقول الشاعر لعبد الملك بن مروان :

ما شئت ... لا ما شاءت الأقدار

                                                        فاحكم فأنت الواحد القهار

والأمثال كثيرة في هذا المجال ...

ـ النفاق السياسي في العصور الحديثة :        

أخذ النفاق السياسي أشكالاً جديدة متطورة وصار موجهاً للأشخاص وأشكالهم وحركاتهم وإبداعاتهم وبسبب ازدياد المال العربي وفقدان الرأي الآخر تفاقمت ظاهرة النفاق وكونت مع استمرارها طبقة من المداحين الرداحين تحيط المراكز السلطوية وتعظمها وتخاطبها كعابد لمعبود وتختار لها أحسن القول وأجمل الشعر وتقدم إليها طقوساً من الرقص .

هذا النوع من المنافقين لم يقدم شعراً جميلاً ولا نثراً كان تزلفاً محضاً ...

نفوس هذه الطبقة اتصفت بالدناءة لا يهمهم سوى مراكزهم وأموالهم ومن أجلها امتهنوا الكذب والمديح والرقص وخلعوا عن وجوههم كل المخاوف من نسبة العار إلى أفعالهم .

ارتاحوا أن يكونوا طالبين في جوقة أي سلطة لأنهم جاهزون للانتقال إلى سلطة أخرى فوراً...

ـ العلاقة بين الحرية والنفاق :

المنافقون كطبقة مستعدة لتزييف الحقائق والتاريخ لا يمكن أن تعيش في مجتمع حر يملك أفراده حرية التعبير .

الحريات الديمقراطية في السياسة تتيح دائماً للأحزاب والمؤسسات الفرص لمناقشة الظواهر السيئة والمطالبة بردعها .

لذلك يتضاءل وجود المنافقين في المجتمعات الديمقراطية لأن ثمة رأياً آخر يستطيع أن يكشفهم دون أن يخشى الخوف .

ظاهرة النفاق تكبير وتتقوى بالحكام لإرهاب كل رأي آخر شعبي يندد بها ..

لذلك فإن مظلة الخوف والقمع العام ترافق هذه الطبقة في الحياة السياسية .

حيثما يوجد قوانين تمنع العمل السياسي أو تحدده أو تمنع الصحافة أو تراقبها تنمو هذه الطبقة وتعرض كما البغاث على أرضنا يستنسر كما يقول المثل .

فالتضاد بين الحرية والنفاق قائم ومستمر ولا يمكن أبدأ أن تتحالف الحرية مع النفاق أو تقبل به لأن ذلك ضد منطق الطبيعة التي استولدت الحرية من الصدق واستولدت النفاق من الكذب .

ـ المنافقون كأداة لتعميم الطاعة :

بعض الحكام يرتاحون للمنافقين ومديحهم ليس لأسباب تتعلق بأشخاصهم بل كجزء من خطة سياسية للحصول على الطاعة العامة .

إن وجود طبقة من الموظفين أو المنتفعين في السلطة تمارس طقوس الولاء والخطابات والرقص في حفلات التكريم أمر إذا استخدم إعلامياً يمكن أن يعمم مبادئ الطاعة لدى عامة الناس من البسطاء الذين يشاهدون وزراء وكبار موظفين وكبار تجار وشعراء وفنانين يمارسون الرقص تكريماً للحاكم أو الملك !

 

ـ الحكام لا يجالسون المنافقين :

 

المنافقون طبقة تعتاش على فوائد الانتهاز ولا تتقدم للسيطرة على القرار السياسي .

ولأنها تعرف مهمتها ( كجوقة ) فإنها تقبل أن لا تشارك في صنع القرار وأن تكون مجرد متلقية له مصفقة وموافقة عليه .

وامتهن المنافقون صناعة التزوير التاريخي من أجل أن يظهروا أمام الحاكمين كمعجبين أو كمحبين ..

من أدبياتهم شطب تاريخ المناضلين أحياء كانوا أو أموات فالتاريخ يبدأ من ممدوحهم وكل الانتصارات تسجل في تاريخه .

في مصر قال المنافقون أن محمد علي باشا الألباني المعروف المولد والنسب والإقامة من آل بيت رسول الله !

ومن أدبياتهم الموالاة فلا نقاش ولا نقد ولا نصيحة كل ما يصدر من فوق يملك كل خصائص المقدس الديني وهو الصواب والحق والعدل ...

لذلك لا يمكن لأي نظام أن يستفيد منهم في تصحيح أي مسار أو خطأ لأنهم في أدبياتهم غير مخولين بهذا الحق ولا يريدون ممارسته أبداً .

 

بالمقابل فإن الحكام أنفسهم لم يحترموا هذه الطبقة واعتبروها من مستلزمات أنظمتهم لا أكثر ولها وظيفة يجب أن تؤديها .

الحكم يستسيغون المديح الصادر من هؤلاء ولكن عملياً لا يجالسونهم وفي أعماقهم يحتقرونهم .

النظرة غليهم كطبقة دنيئة متوفرة لدى الشعب والحاكم نفسه ولكن الحاكم يستعملهم كأدوات لتعميم الطاعة العامة ولا يجالسهم أما الشعب فيكرههم .

يكتفي الملك أو الحاكم ببعض المستشارين الأمناء الذين يوجهون معه دفة الحكم دون ضجيج أو ظهور ومع هؤلاء يجتمع فقط ويتناقش . أما المنافقون فقد لا يرون الحاكم إلا دقائق في كل عشر سنوات مهما علت مراكزهم ويبقى المنافق صغيراً ولو علت رتبته لأن الذي صنعهم أرادهم طالبين ورقاصين ومداحين ومثل هذه المهمة من لوازم الحكم كما الملعقة والسكين من لوازم المطبخ !

من هذا العرض للنفاق بجانبيه الديني والسياسي نكتشف أن القاسم المشترك للنوعين هو الكذب وامتهانه والأذى وحب الاستبداد .

ومثل هذا المرض إذا استشرى وهو عملياً موجود على امتداد الساحة العربية يؤدي إلى حذف المناقشين والمفكرين والديمقراطيين ..

 

حين تكون هناك صحافة حرة ومؤسسات فاعلة في جو ديمقراطي فإن الأكاذيب تجد دائماً من بفضحها ويوقف شرورها .

 

إن نافذة من الحرية مهما كان هامشها ضيقاً تستطيع أن ترسل الهواء إلى حيث الاختناق من الانتهازية والنفاق فيستطيع البشر أن يتنفسوا قليلاً .

 

 

إن القرن الواحد والعشرين هو قرن الحرية والعلم والصدق ولا مكان لأمة لا تعد نفسها لامتلاك هذه الخصائص الحضارية لأنها إذا لم تمتلكها يمكن أن تدوسها نعال الأقوياء .

وحين نختار الصدق ... فإن المنافقين على الجانبين الديني والسياسي يتبخرون...

وأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ...

 

ألقيت في ندوة للاشتراكيين العرب 1979


 

horizontal rule

(1 ) ص 10 من كتاب لغة المنافقين للدكتور لاشين .

(2) ص 10 من كتاب لغة المنافقين للدكتور لاشين .

 

 

Articles

Copyright © 2012 Hachwa
Last modified: 03/19/13 
Hit Counter